فصل: (مسألة: أحكام تتعلق بإرسال الجارحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: ما يستحب في المدية وحكم غيرها]

المستحب: أن يذبح بسكين حاد لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا ذبحتم.. فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته».
إذا ثبت هذا: فيجوز الذبح بكل محدد يتأتى الذبح به: من حديد أو صفر أو خشب أو ليطة. وهي: قشر القصب ـ أو مروة، وهي: الحجارة الحادة.
ولا يجوز الذبح بالسن والظفر سواء كانا متصلين أو منفصلين.
وقال أبو حنيفة: (لا تجوز الذكاة بهما، لكنه إن خالف وذكى بهما، فإن كانا متصلين.. لم تحصل بهما الذكاة، وإن كانا منفصلين.. حل أكله).
دليلنا: ما روى رافع بن خديج: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه.. فكلوه، إلا ما كان من سن أو ظفر، وسأخبركم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر: فمدى الحبشة». ولأنه ذبح بعظم فوجب أن لا يبيح كما لو كان متصلا.

.[مسألة: ما ينحر ويذبح وموضع الذبح وما يقطع منه]

السنة عندنا: أن تنحر الإبل، وأن تذبح البقر والغنم، هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي في "الإبانة"يتخير في البقر: بين النحر والذبح والأول أشهر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2].
وقال تعالى في قصة موسى وبني إسرائيل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67].
قال مجاهد: أمرنا بالنحر، وأمر بنو إسرائيل بالذبح؛ لأن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث في قوم مواشيهم الإبل، فسن لهم النحر.. وكانت مواشي بني إسرائيل البقر، فسن لهم الذبح.
إذا ثبت هذا: فأراد أن ينحر الإبل.. فالسنة أن ينحرها معقولة وهي قائمة؛ لما روي: «أن ابن عمر رأى رجلا أضجع بدنة، فقال: قياما سنة أبي القاسم ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ثم يأخذ حربة أو سكينا فيغرزها في ثغرة النحر، وهي: الوهدة التي تكون في أعلى الصدر، وأصل العنق.
وإذا أراد أن يذبح البقر والغنم.. فالسنة أن يضجعها لـ: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أضجع الكبشين اللذين ضحى بهما، ووضع رجله على صفاحهما».
وإذا ثبت هذا ـ في الغنم ـ: فالبقرة مثلها: لأنها لما كانت السنة فيها الذبح كالغنم.. كان السنة فيها الإضجاع كالغنم، فإن خالف ونحر البقر والغنم.. أجزأه بلا خلاف؛ لما روى جابر: أنه قال: «أحصرنا مع رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية، فنحرنا البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة».
وإن ذبح الإبل.. جاز، وحل أكلها.
وقال مالك: (لا يحل أكلها).
دليلنا: أن كل ما كان ذكاة للبقر والغنم.. كان ذكاة للإبل، كالنحر.
وأما موضع الذبح: فهو أسفل مجامع اللحيين وهو آخر العنق، والكمال فيه: أن يقطع أربعة أشياء: الحلقوم، والمريء، والودجين.
فـ (الحلقوم): مجرى النفس والتنفس من الرئة، و(المريء): تحت الحلقوم وهو مجرى الطعام والشراب، و(الودجان) ـ قال الشيخ أبو حامد ـ: هما عرقان محيطان بالحلقوم، قال: وكنا نذكر قبل هذا: أنهما محيطان بالمريء، ورأيت أكثر الناس يقولون: هما محيطان بالحلقوم، وأيهما كان.. فقطعهما شرط في الكمال.
وأما الإجزاء: فاختلف الناس فيه على أربعة مذاهب.
فمذهبنا: أن الإجزاء يحصل بقطع الحلقوم والمريء لا غير.
وقال مالك: (قطع الأربعة شرط في الإجزاء).
وقال أبو حنيفة: (قطع أكثر الأربعة شرط في الإجزاء)، فمن أصحابه من قال: مذهبه: أن قطع الأكثر من كل واحد من الأربعة شرط في الإجزاء وهو الظاهر، وقال أبو يوسف: قطع أكثر الأربعة عددا شرط في الإجزاء.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3].
و(الذكاة) ـ في اللغة ـ: هي الشق والفتح، فإذا قطع الحلقوم والمريء.. فقد شق وفتح. ولأن الودجين قد يسيلان من الحيوان وتبقى الحياة فيه، فلم يكن قطعهما شرطا في الإجزاء كاليد والرجل، بخلاف الحلقوم والمريء. ولأن القصد من الذكاة إخراج الروح من غير تعذيب، وهذا يحصل بقطع الحلقوم والمريء فأجزأه، كقطع الأربعة.
ويكره أن يبادر إلى تقطيع الذبيحة أو سلخها قبل خروج روحها وسكونها، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (لا تعجلوا الأنفس حتى تزهق، فإن الجاهلية كانت تضرب الذبيحة عقيب الذبح بالعصا حتى تخرج روحها)، و: (نهى عمر عن النخع). فمعنى قوله: (الأنفس) يعني: الروح، ومعنى: (حتى تزهق): أي قبل أن يتسارع خروج روحها، يقال: زهقت نفسه إذا خرجت، وزهق فلان بين يدي القوم: إذا أسرع مبادرا. ولأن في ذلك تعذيب الحيوان، فإن خالف وفعل.. حل أكلها؛ لأن الذكاة قد حصلت. وأما نهيه عن النخع: فقال الشافعي: (هو كسر العنق بعد الذبح). وقال أبو عبيدة: (النخع والفرس): واحد، وهو أن يبالغ في الذبح إلى أن يبلغ بالذبح بعد قطع الحلقوم والمريء والودجين إلى النخاع، وهو العرق الأبيض في جوف فقر الظهر، وهو: من عجب الذنب إلى الدماغ.
قال أبو عبيد: أما (النخع): فكما قال أبو عبيدة، وأما (الفرس): فهو الكسر
يقال: فرست الشيء إذا كسرته، ومنه فريسة الأسد لما دقه وكسره.
فإن كسر عنقه بعد الذبح.. كره؛ لنهي عمر، ولم يؤثر في إباحة اللحم؛ لأن ذلك يحصل بعد الذكاة.

.[فرع: ما يسن حال الذبح]

ويستحب أن يستقبل القبلة بالذبيحة، ويسمي الله تعالى، ويصلي على النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد مضى الكلام على ذلك في الأضحية.

.[فرع: ذبح الحيوان من القفا]

وإن ذبح الحيوان من قفاه.. نظرت: فإن كانت فيه حياة مستقرة بعد قطع الرقبة وقبل قطع الحلقوم والمريء.. حل أكله. وإن لم تكن فيه حياة مستقرة.. لم يحل أكله.
قال الشيخ أبو حامد: وإنما يعرف هذا بالحركة، فان كانت الحركة قوية قبل قطع الحلقوم والمريء والودجين.. حل أكلها. وإن لم تكن هناك حركة.. لم يحل أكلها.
واختلف أصحابنا في علته:
فمنهم من قال: لأنه قد وجد فعلان: أحدهما: تتعلق به الإباحة، والآخر: يتعلق به الحظر، فإذا لم نعلم بقاء الحياة المستقرة بالحركة.. حكمنا بالحظر.
وعلل أبو إسحاق بأن الظاهر أن الحيوان إذا قطعت رقبته من قفاه: أنه لا تبقى فيه حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمريء، فإذا كان هذا هو العادة.. علم أنه ما كان بقي فيها حياة مستقرة إذا لم تكن هناك حركة، وأما إذا كانت هناك حركة.. حل أكلها.
وقال مالك وأحمد: (لا يحل أكلها).
دليلنا: قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه.. فكلوه». ولأنها ذكاة حصلت وفيه حياة مستقرة فأباحت، كما لو قطع رجلها ثم ذبحها.

.[فرع: جرح الحيوان ثم ذبحه]

وإن جرح السبع أو الآدمي الشاة فذبحت.. ففيها ثلاث مسائل:
إحداهن: إذا جرحها جراحا قد تموت منه وقد لا تموت منه، فأدركها وفيها حياة مستقرة فذبحها.. حل أكلها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3].
ولأن فيها حياة مستقرة فحل أكلها، كما لو لم يكن فيها جراحة.
الثانية: إذا جرحها جرحا تموت منه لا محالة، ولكن فيها حياة مستقرة.
قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: والحياة المستقرة في هذه المسألة عما يجوز أن تبقى اليوم أو اليومين، ويجوز أن لا تبقى، مثل: أن يشق جوفها وظهرت الأمعاء ولم تنفصل، فإذا أدركها وذكاها.. حل أكلها؛ لحديث الجارية التي كسرت حجرا وذبحت بها شاة، فأمر النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأكلها.
الثالثة: إذا جرحها جرحا لا تبقى معه حياة مستقرة، مثل: أن يشق جوفها، وأبان حشوتها فذبحها.. لم يحل. وهكذا البهيمة إذا كانت مريضة قد أشرفت على الموت لا تحل بالذكاة.
وحكى صاحب "الفروع" عن أبي علي بن أبي هريرة: أنه قال: ما دامت البهيمة تضرب بذنبها وتفتح عينيها.. فإنها تحل بالذكاة. وليس بشيء؛ لأن الحياة فيها غير مستقرة، وإنما حركتها حركة مذبوح.
وقد نقل المزني المسألة الثانية، وأفتى فيها بجواب الثالثة، ثم قال: وله قول آخر: (أنها تؤكل) فأومأ إلى قولين. وليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين على ما بيناه.

.[مسألة: الاصطياد بالسباع]

يجوز الاصطياد بسباع البهائم التي يمكن أن تعلم الاصطياد: كالكلب والفهد والنمر، وسباع الطير: كالصقر والبازي والباشق والعقاب. وبه قال ربيعة ومالك وأبو حنيفة.
وقال ابن عمر ومجاهد: (لا يجوز الاصطياد إلا بالكلب).
وقال الحسن والنخعي وأحمد وإسحاق: (يجوز الاصطياد بجميع ذلك إلا بالكلب الأسود، فإنه لا يجوز).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4].
فمعنى قوله: الْجَوَارِحِ أي: الكواسب. قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] أي: اكتسبوا السيئات.
وقال تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] أي: ما كسبتم. ويقال هو جارحة أهله، أي: كاسب أهله، وإذا كانت الجوارح الكواسب.. فلم يفصل بين كاسب دون كاسب.
وأما قوله: {مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] فالكلاب تقع على سباع البهائم كلها؛ لما روي «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا على عتبة بن أبي لهب، فقال: «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك يفترسه» فافترسه الأسد. ويجوز أن يكون قوله: {مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] مأخوذا من التكليب:
وهو تعليم الجارحة للصيد، يقال: فلان يكلب على فلان، أي: يغري عليه.
ومن السنة ما روي «عن عدي بن حاتم: أنه قال: سألت النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيد البازي، فقال: «كل مما أمسك عليك». وروى عدي بن حاتم: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما علمت من كلب أو باز، ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه.. فكل مما أمسك عليك»، قلت: وإن قتل، قال: «إذا قتله ولم يأكل منه شيئا.. فإنما أمسكه عليك».

.[مسألة: أحكام تتعلق بإرسال الجارحة]

وإن أرسل جارحة غير معلمة على صيد فجرحه، فإن أدركه وفيه حياة مستقرة فذكاه.. حل أكله، وإن أدركه وليس فيه حياة مستقرة.. لم يحل أكله؛ لما روى أبو ثعلبة الخشني: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أرسلت كلبك الذي ليس بمعلم، فإن أدركت ذكاته.. فذكه وكل».
وإن استرسل المعلم بنفسه وجرح صيدا، فإن أدركه وفيه حياة مستقرة فذكاه.. حل أكله، وإن لم يدرك فيه حياة مستقرة.. لم يحل: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] وهذا ما أمسك علينا، وإنما أمسك على نفسه.
وإن أرسل من يحل الحيوان بذكاته جارحة معلمة، فقتل الصيد بظفره أو نابه أو منقاره ولم يأكل منه.. حل أكله، لما روى عدي بن حاتم: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما علمت من كلب أو باز، ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه.. فكل مما أمسك عليك وإن قتل ولم يأكل منه.. فإنما أمسكه عليك».

.[فرع: شروط الجارحة المعلمة]

ولا تكون الجارحة معلمة حتى يكون فيها ثلاثة شرائط:
قال الشافعي: (إذا أشلاه.. استشلى) أي: إذا أرسله.. استرسل في طلب الصيد، وإذا زجره.. انزجر، وإذا أمسك الصيد.. لم يأكل منه وخلى بينه وبينه، فإذا كرر منه ذلك.. صار معلما، وحل ما قتله.
قال أصحابنا: وليس لتكرر ذلك عدد محصور، وإنما الاعتبار بعرف الناس وعادتهم.
وقال أبو حنيفة وأحمد: (إذا تكرر منه ذلك مرتين.. صار معلما).
وقال أبو يوسف ومحمد: (إذا تكرر ذلك منه ثلاثا.. صار معلما).
دليلنا: أن الشرع ورد بذلك مطلقا، فوجب أن يرجع فيه إلى العرف والعادة، كالقبض والتفرق في البيع، وليس في العرف: أن بالمرتين والثلاث يصير معلما؛ لأنه قد يترك الأكل؛ لأنه غير محتاج إليه، وقد يأكل لفرط الجوع، فلا يعلم ذلك حتى يكثر منه.
إذا تقرر هذا: فاعترض ابن داود على قول الشافعي: (إذا أشلاه.. استشلى) فقال: يقال: أشلاه إذا دعاه، وأغراه: إذا أرسله. ولهذا قال الشاعر:
أشليت عنزي ومسحت قعبي

فالجواب: أن من أصحابنا من قال: "إن الشافعي من أهل اللغة؛ لأنه ولد فيها ونشأ. قال الأصمعي: قرأت ديوان الهذليين" على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس الشافعي. فإذا كان الأصمعي على جلالته يأخذ عنه اللغة.. ثبت أنه أصل في اللغة فيكون أشلى من الأضداد، يعبر به عن الإغراء وعن الاستدعاء.
ومنهم من قال: الإشلاء عبارة عن الاستدعاء، فكأنه يستدعيه، ثم يرسله، فعبر بالإشلاء عن الإرسال؛ لأنه إليه يؤول؛ لأن العرب تعبر عن الشيء بما يؤول إليه.
قال الله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] فعبر بالخمر عن العنب؛ لأنه يؤول إليه.

.[فرع: التسمية عند إرسال الجارحة]

إذا أرسل جارحة على صيد.. فالمستحب له: أن يسمي الله تعالى؛ لما ذكرناه في الخبر، فإن ترك التسمية.. جاز. وقد مضى ذكر الخلاف في التسمية على الذبح في الأضحية، وهكذا الخلاف في ترك التسمية عند إرسال الجارحة.

.[فرع: إرسال الجارحة ممن لا تحل ذكاته]

وصور أخرىوإن أرسل من لا تحل ذكاته: من وثني أو مرتد أو مجوسي جارحة معلمة، فقتل الصيد.. لم يحل أكله، سواء كانت الجارحة علمها مسلم أو مجوسي. هذا هو المشهور من المذهب. وحكى الطبري وجها آخر: أنه يحل أكل ما قتلته الجارحة التي أرسلها المجوسي وليس بشيء؛ لأن الجارحة آلة، و(المرسل): هو المذكي، فلم يحل ما قتله كما لو ذبحه بيده.
وإن أرسل المسلم جارحة علمها المجوسي فقتل صيدا.. حل أكله. وبه قال عامة أهل العلم إلا الحسن البصري فإنه قال: لا يحل.
دليلنا: أن المذكي هو المرسل وهو مسلم، فحل، كما لو أخذ سكينا من مجوسي وذبح بها شاة.
وإن أرسل المسلم كلبه المعلم، وأرسل المجوسي كلبه واتفقا على صيد فقتلاه.. لم يحل أكله؛ لأنه اجتمع فيه ما يقتضي الحظر والإباحة، فغلب الحظر، كالمتولد بين الضبع والذئب. وإن أرسل كل واحد كلبه فرد كلب المجوسي الصيد على كلب المسلم وقتله كلب المسلم.. حل أكله. وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يحل).
دليلنا: أن كلب المسلم انفرد بقتله، فلا يؤثر معاونة كلب المجوسي، كما لو رمى المجوسي صيدا فرد به الصيد وأصابه سهم المسلم فقتله.

.[فرع: استرسال الكلب المعلم بنفسه]

إذا استرسل الكلب المعلم بنفسه فزجره صاحبه فانزجر، ثم أشلاه على الصيد - أي: أغراه به ـ فاستشلى وأخذ الصيد وقتله.. حل أكله؛ لأنه قطع استرساله بوقوفه ثم استأنف استرسالا بالإشلاء. فإن لم ينزجر، بل ذهب وصاد وقتل.. لم يحل لأنه صاد باختياره. وإن لم يزجره، ولكن لما استرسل بنفسه أشلاه على الصيد.. نظرت: فإن لم يزدد نشاطا بالإشلاء.. لم يحل ما قتله، وإن ازداد نشاطا وعدوا بالإشلاء، ثم ذهب فقتل صيدا.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري في "العدة":
أحدهما: وهو قول أبي حنيفة -: أنه يحل؛ لأنه لما ازداد نشاطا.. علم أنه قد قطع الأول، واستأنف قصدا آخر بالإشلاء فحل ما قتله، كما لو وقف وقفة ثم أشلاه. ولأن فعل البهيمة وفعل الآدمي إذا اجتمعا.. سقط فعل البهيمة وكان الفعل للآدمي، بدليل: أنه لو رأى كلبا يقصد إنسانا، فأغراه به فازداد نشاطا، ثم جنى على الإنسان.. كان الضمان على من أغراه وأضراه.
والوجه الثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ غيره ـ: أنه لا يحل؛ لأن
الاسترسال كان باختيار الكلب، وشدة العدو يجوز أن يكون لنشاط حدث له، ويجوز أن يكون اتباعا لاختيار صاحبه، فكان بناؤه على الأول أولى به؛ لأنه لم يفارق اختيار نفسه، ولأنه قد اجتمع أمران: أحدهما: ما يوجب الحظر. والثاني: ما يوجب الإباحة، فغلب ما يوجب الحظر، كما لو أرسله مسلم ومجوسي وقتل الصيد. ويفارق إذا وقف، ثم أشلاه فاسترسل؛ لأن هناك قد قطع اختيار نفسه وهاهنا لم يقطع.
وأما قول الأول: إذا طلب الكلب إنسانا، ثم أضراه آخر وجنى عليه.. وجب الضمان على الذي أغراه.. فغير مسلم.
وإن أرسل المسلم كلبا على صيد فزجره مجوسي فانزجر، ثم أشلاه فاستشلى وقتل الصيد.. لم يحل ما قتله؛ لأنه قد قطع الاسترسال الأول بوقوفه. وإن لم يزجره المجوسي، بل أشلاه على الصيد، فإن لم يزدد نشاطا في عدوه.. لم يؤثر إشلاء المجوسي، وإن ازداد نشاطا بإشلاء المجوسي، ثم ذهب فقتل الصيد.. فوجهان:
أحدهما ـ وهو قول الشيخ أبي حامد -: أنه يحل اعتبارا بفعله الأول، ولم يوجد ما يقطعه.
والثاني ـ حكاه القاضي أبو الطيب، وهو قول أبي حنيفة ـ: أنه لا يحل؟ لأنه قد شاركه المجوسي في الإرسال، فلم يحل ما قتله، كما لو أرسلاه معا.
وهكذا لو أرسل المجوسي كلبا، فإن زجره المسلم فانزجر ثم أشلاه فاستشلى وقتل الصيد... حل ما قتله، وإن لم يزجره ولكن أشلاه فازداد في عدوه وقتل الصيد.. فهل يحل ما قتله؟ على الوجهين.

.[فرع: إرسال المجنون والصبي والأعمى للكلب]

وإن أرسل المجنون أو الصبي كلبا على صيد فاسترسل وقتل الصيد، أو رماه فقتله.. فالمشهور: أنه يحل أكله، كما لو ذبح شاة.
وحكى الطبري في "العدة" وجها آخر: أنه لا يحل؛ لأنه لا قصد له. وليس بشيء؛ لأن القصد غير معتبر بالذكاة، بدليل: أنه لو قطع شيئا ظنه خشبة، فبان حلق شاة.. حل أكلها.
وإن أرسل الأعمى كلبا على صيد فاسترسل وقتل الصيد.. فوجهان، حكاهما في "العدة":
أحدهما: لا يحل. ولم يذكر ابن الصباغ غيره - لأنه لا يرى الصيد فأشبه إذا استرسل الكلب بنفسه وقتل الصيد.
والثاني: يحل؛ لأنه من أهل الذكاة، فحل قتل ما أرسله، كما لو ذبح شاة بيده.

.[فرع: حل ما قتله الجارح بنابه وغيره]

قد ذكرنا: أن الجارحة إذا قتل الصيد بنابه، أو ظفره، أو مخلبه.. فإنه يحل أكله، فأما إذا قتله بشدة صدمته أو بثقله.. فهل يحل أكله؟ فيه قولان:
أحدهما: يحل ـ وهو رواية الحسن بن زياد، عن أبي حنيفة - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ولم يفرق بين ما قتله بجرحه أو بثقله.
والثاني: لا يحل ـ وهي رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة ـ لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه.. فكل» وهذا لم ينهر الدم، فوجب أن لا يحل، وأما إذا كد الجارحة الصيد حتى أتعبه فمات من التعب.. لم يحل أكله قولا واحدا؛ لأنه مات من غير عقر ولا فعل أوقعه فيه.

.[فرع: أكل الجارحة من الصيد أو احتساء دمه]

قد ذكرنا: أن الجارحة إذا قتل الصيد ولم يأكل منه شيئا.. فإنه يحل.
فأما إذا كل منه شيئا، فإن كانت الجارحة من سباع البهائم، كالكلب والفهد والنمر.. نظرت: فإن قتل الصيد، ثم مضى عن الصيد، ثم رجع إليه وأكل منه.. لم يحرم أكله قولا واحدا. وإن أكل منه عقيب قتله.. ففيه قولان:
أحدهما: يحل أكله ـ وبه قال ابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وسلمان
الفارسي، وهو قول مالك - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ولم يفصل: بين أن يأكل منه، أو لا يأكل منه. وروى أبو ثعلبة الخشني: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه.. فكل وإن كان أكل منه». ولأن كل عقر كان ذكاة إذا لم يتعقبه أكل.. كان ذكاة وإن تعقبه أكل، كما لو قتله وتركه، ثم عاد وأكل منه.
والقول الثاني: لا يحل أكله - وبه قال أبو هريرة وابن عباس، ومن التابعين: الحسن البصري والشعبي والنخعي، ومن الفقهاء: أحمد ـ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] وإذا أكل منه.. فلم يمسكه علينا، وإنما أمسكه على نفسه. ولما روى عدي بن حاتم: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما علمت من كلب أو باز، ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه.. فكل مما أمسك عليك»، قلت: فإن قتل؟ قال: «إذا قتله ولم يأكل منه شيئا.. فإنما أمسكه عليك»، فدل على: أنه إذا أكل منه فقد أمسكه على نفسه. وفي رواية الشعبي، «عن عدي بن حاتم قال: سألت النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: أرسل كلبي؟ فقال: «إذا سميت.. فكل، وإلا.. فلا تأكل وإن أكل منه.. فلا تأكل منه: فإنما أمسكه على نفسه.» ولأن كل ما كان شرطا في استباحة أكل الصيد في الابتداء.. كان شرطا في الاستدامة، كالإرسال.
إذا ثبت هذا: فإن ما قتله قبل الصيد الذي أكل منه لا يحرم قولا واحدا.
وقال أبو حنيفة: (يحرم أكل هذا الذي أكل منه، وأكل ما قتله من قبله من الصيد).
دليلنا: أنه لم يوجد في الصيد الأول ما يقتضي الحظر، وإنما وجد في غيره، فلم
يحرم، كما لو أرسل جارحة على صيد فقتله، ثم استرسل بنفسه على صيد فقتله.. فإن الأول لا يحرم.
وإن كانت الجارحة من سباع الطير: كالصقر والبازي والعقاب والباشق، فأكل من الصيد عقيب قتله.. فالمنصوص للشافعي: أنه كالكلب والفهد على قولين.
وقال المزني: أكل الطير لا يحرم قولا واحدا ـ وهو قول أبي حنيفة ـ لأنه لا يمكن أن يضرب على الأكل.
وقال أبو علي الطبري: إذا قلنا: لا يحرم ما أكل منه الكلب.. فما أكلت منه سباع الطير أولى، وإن قلنا: يحرم ما أكل منه الكلب.. فهل يحرم ما أكل منه الطائر؟ فيه وجهان.
والأول أصح؛ لأنه جارحة أكل مما قتله عقيب قتله، فأشبه ما أكل منه الكلب والفهد.
وإن شرب الجارحة من دم الصيد.. لم يحرم ذلك قولا واحدا.
وحكى ابن المنذر عن النخعي والثوري: أنهما كرها أكل ما احتسى الجارحة دمه.
دليلنا: قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن أكل منه.. فلا تأكل» وهذا لم يأكل منه، ولأن الدم لا يقصده الصائد ولا منفعة له فيه، فلم يمنع الجارحة منه.